كابلي : أوقيانوس الحَرفْ و اللَّحنْ و النَّغَم
عندما كنّا صُغار نستيقظُ على إيقاع لحن الصباح الذي ينسابُ مثل( الحريرِ نِعومةً و نَداوةً و تكسُرا) نصحى على أنغام أوقيانوس الحرف واللحن عبدالكريم الكابلي نتمايلُ طرباً مع المفردات الرصينة التي يَشِّعُ من خلالها ضوء الشمس ليبعث الأمل و التفاؤل :
شمس الصباح و الصباح رباح …. شمسك يا وطني
بريدك يا وطني بحبك ياوطني
عبر أثير إذاعة أمدرمان وصوتُ الرائعة ليلى المغربي الذي وصفه الشاعر محمد يوسف موسى ؛
يا صوتُها لما سَرى …. سُكراً ولا كأساً تُرى
يا صوتُها ياروعةً …. لحناً طبيعياً سرى
هذا الكنارُ مُغَرداً… والنأيُ ناحَ تأسُراً
يا صُوتها لما سَرى…. عبر الأثيرِ مُعطراً
عبر الأثيرِ مُعطراً يشدو صوت أيقونة الإذاعة أنذاك ليلى المغربي لها الرحمة و المغفرة في برنامج “نفحات الصباح “ ليكون همزة وصل لروائع الكابلي ، تسري هذه الأصوات ( مثل الصباحِ طلاقةً و رشاقةً وتَخَطرا ) لتنثر الجمال:
نور و زهور و عطور واستلموا المجال
صوت منساب بلور و شبه ناس قُلال
ينسابُ إلينا صوت زرياب السودان عبدالكريم الكابلي كأنسياب نهر النيل نحو (مروي):
فيك يا مروي شفت كل جديد
فيك شفت عيون لعبو بي شديد
كان الكابلي في كلِّ ما هو جميلٌ في تفاصيل حياتنا اليومية ( كل الجمال ) فهو نهر الابداع والتجديد المتدفق للموسيقى السودانية فهو الملحن والمغني و الباحث و المحاضر في الجامعات و المثقف، غَنَّى للحبِّ، فأحبه الناس (حبك للناس خلاني أحبك تاني) حتى ترنيمة المساء التي كانت تأتينا ( في عز الليل) عبر برنامج يسرية محمد الحسن( سجى الليل) كانت بصوت عبدالكريم الكابلي.
في عز الليل
انا والليل .. ومر جفاك
مساهرين نحكي للافلاك
لاخلصت حكاوينا
لالقينا البداوينا
يامشهيني طعم النوم
وطيفك في خيالي يحوم
رائعة الشاعر التيجاني الحاج موسى.
شَكَّلَ الكابلي وجدان الشعب السوداني بموهبتهِ و ألقَ مفرداته و جمال روحه فهو باحثٌ في التراث من الطراز الرفيع و مُجَدِدٌ و سفيرُ النوايا الحسنةلبرنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP.
وصفتَهُ أم كلثوم عندما سمعته يتغنى برائعة أبو فراس الحمداني ( آراك عصيُ الدمع شيمتُك الصبرُ) بهمزة الوصل بين الوجدان السودانيوالعربي ، (ليس في الأمر عجب) فهو مَنْ لحّنَ و غَنّى و أمطرت لؤلؤاً للشاعر الأموي يزيد بن معاوية و قصيدة الجندول للشاعر المصري علي محمود طهالمهندس و هو مَنْ تغزل بكلمات محمود عباس العقاد (شذى زهرٍ ولا زهرُ … فأين الظًّلِ و النهرُ) و غنى للشاعر الكويتي على شريحة ( أغلى من لؤلؤةٍ بضة صيدت من شط البحرين) وصداح يا ملك الكنار” للشاعر المصري أحمد شوقي.
وعندما بدأ المد الثوري ينتظم حركة التحرر في دول العالم الثالث, غَنّى الكابلي قصيدةَ الشاعر تاج السر الحسن ( آسيا و إفريقيا) التي أخبرنا فيهاعن المناضل الكيني جومو كينياتا وأرض سوكارنو ( أندونسيا) و جمال عبدالناصر و أم صابر تلك المرأة التي كانت تخبئ السلاح في ثيابها لتقدمهاللجيش المصري خلال نضاله ضد الإنجليز و الشاعر العبقري رابندرانات طاغور .
يا صحابي فأنا ما زرتُ يوماً أندويسيا
أرض سوكارنو .. ولا شاهدتُ روسيا
غير أني والسنا في أرض أفريقيا الجديدةْ
والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدةْ
وُلِدَ الكابلي في ثلاثينات القرن الماضي وهو يحملُ في عروقهِ وجيناتِه ثراء التنوع الثقافي و الفني، فالغناء عنده شكل طبيعي للتعبير عن الذات ،النُخب السودانية لا تتعامل مع روائعه وكأنها لحظة فرح تنتهي بانتهاء المناسبة بل هي تراثٌ يُدرَّسُ للأجيال و إرثٌ تتزينُ به المكتبات و ثروةٌ قوميةنفاخر بها الأمم.
ومضةٌ عشتُ على اشراقِها … و انقَضتْ عَجَلا و ما اصَغَتْ إليَّا
كلمةٌ خَبأتُها فى خَافِقِى … و تَرفَقتُ بِها بَراً حفيِّا
بين عطر ِ الكلمات وصدق المفردات رحل صاحب الموروث الثقافي و الفلكلور الموغل في القواميس العَصيِّة رحل خال فاطنة ، أبكريك في اللجج سدّرحبس الفجج ، عاشميق حبل الوجج.
رحم الله عبدالكريم الكابلي
قلوبال ميديا
رئيس التحرير